سورة الأنعام - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)} [الأنعام: 6/ 91- 92].
ذكر ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير- في بيان سبب نزول هاتين الآيتين- قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف، فخاصم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال له النّبي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن اللّه يبغض الحبر السّمين؟» وكان حبرا سمينا، فغضب، وقال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك، ولا على موسى، فأنزل اللّه: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية.
اللّه سبحانه هو القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، والرّحيم بخلقه، فأرسل الرّسل، وأنزل الكتب، وأوحى إلى الأنبياء شرائعه لهداية الناس وإرشادهم، أما منكرو الوحي الذين يكفرون برسل اللّه من الوثنيين والملاحدة فما عرفوا اللّه حقّ معرفته، وما عظّموه حقّ تعظيمه، إذ كذبوا رسله إليهم، وقالوا: ما أنزل اللّه كتابا من السّماء.
والرّد على هؤلاء المنكرين للوحي بأمر مشهور لهم، لم يكذّبه العرب قاطبة، وهو ما أمر اللّه به نبيّه محمدا أن يقول لهم: من أنزل كتاب التّوراة على موسى بن عمران؟
وأنتم تعترفون بالتوراة إذ قلتم: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [الأنعام: 6/ 157]. والتوراة نور للمؤمنين، وهداية للمسترشدين، وأنتم يا بني إسرائيل تجعلون التوراة قراطيس، أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرّفون منها ما تحرّفون، وتبدّلون منها ما تبدّلون، وتقولون: هذا من عند اللّه، أي في كتابه المنزل، وما هو من عند اللّه. وأنتم أيضا تخفون دلائل نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والبشارة به وبعض الأحكام التشريعية كحكم الزّنى، فيجدر بكم أيها المشركون ألا تثقوا بأقوال المعادين للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم عداء شديدا بقصد إبطال رسالته.
ويا معشر العرب علّمتم من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم، وقد أصبح للعرب بالإسلام مجد وعزّة ودولة، بعد أن كانوا قبائل شتى، وفي جهالة عمياء.
ثم أمر اللّه تعالى نبيّه بالمبادرة إلى موضع الحجة والرّد الحاسم، فقل لهم: اللّه تعالى هو الذي أنزل الكتاب على موسى، وأنزل علي هذا الكتاب وهو القرآن، ثم أمره تبارك وتعالى بترك من كفر وأعرض بقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي ثم دعهم واتركهم في جهلهم وضلالهم يلعبون، حتى يأتيهم الموت الذي يطوي صحيفة هؤلاء المعاندين المكابرين. ومعنى الخوض: الذهاب فيما لا تعرف حقائقه.
ثم أبان اللّه تعالى أوصاف القرآن بأنه كتاب كثير البركة والخير، أنزله اللّه مؤيّدا لما تقدمه من الكتب، ومهيمنا عليها، يبشّر بالجنّة والثواب والمغفرة من أطاع اللّه، وينذر بالنار والعقاب من عصى اللّه، ويخوّف أهل مكة: أمّ القرى ومركز قطب الدائرة في العالم، ومن حولها من سائر الناس، من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم، من عرب وعجم، كما قال اللّه تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 7/ 158] وقال سبحانه: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 6/ 19].
وكل من آمن بالآخرة والمعاد وقيام الساعة يؤمن ويصدّق بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن، هؤلاء المؤمنون هم الذين يحافظون على صلواتهم، أي يقيمون ما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها، ويسرعون إلى كل أمر آخر أمروا به.
جزاء المفترين على اللّه الكذب:
إن هناك أنواعا من الظلم القبيح، ولكن أشدّ أنواع الظلم قبحا هو افتراء الكذب على اللّه، وادّعاء نزول الوحي، مثل فئة المتنبّئين الذين ادّعوا النّبوة كمسيلمة الكذّاب والأسود العنسي، فإنهم جماعة حمقى، اقتحموا مجالا يسهل كشف حقيقته، وزيف ادّعاءاته لأن الوحي لا يكون بسخف القول، وتفاهة الكلام الذي يأباه العقلاء، ويرفضه أبسط الناس وأدناهم تأمّلا وتفكّرا، لذا أنكر اللّه تعالى هذا الظلم الذي ارتكبوه، وفضح هذا المسلك الذي ادّعوه واختلقوا فيه الأكاذيب، فقال اللّه تعالى:


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} [الأنعام: 6/ 93- 94].
نزلت آية {وَمَنْ أَظْلَمُ}- فيما رواه الطبري عن عكرمة- في مسيلمة، وأما آية {سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} فنزلت في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فيملي عليه: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فيكتب (غفور رحيم) ثم يقرأ عليه، فيقول: «نعم سواء»، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.
وقال عكرمة في آية: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى} قال النّضر بن الحارث: سوف تشفع إلي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى} إلى قوله: {شُرَكاءُ} هذه الآيات لإثبات النّبوة، فيها وعيد من ادّعى النّبوة والرّسالة، على سبيل الكذب والافتراء، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن نفي النّبوة عن مدّعيها إثبات لمن أعطيها حقّا. ولقد ادّعى النّبوة أناس أغرار حمقى، كمسيلمة الكذّاب في اليمامة، والأسود العنسي في صنعاء اليمن، وطليحة الأسدي في بني أسد، والمختار بن أبي عبيد وسواهم.
والمعنى: لا أحد أظلم ممن كذب على اللّه، فجعل له شريكا أو ولدا، أو ادّعى النّبوة والرّسالة، ولم يرسله اللّه إلى الناس، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، وهذا القول الأخير فيه كذبان: ادّعاء النّبوة ونفيها عن غيره، أو قال وهو النّضر بن الحارث {سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال: {لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 8/ 31]، وكان يقول في القرآن: إنه من أساطير الأولين، وإنه شعر، لو نشاء لقلنا مثله.
وعاقبة هؤلاء المفترين: تعذيبهم عند قبض أرواحهم وفي الآخرة، فليتك تبصر أيها الرسول وكل مؤمن حين يكون الظالمون في سكرات الموت وشدائده، لرأيت أمرا عجبا عظيما لا سبيل إلى وصفه، حين تبسط الملائكة أيديهم إليهم، لقبض أرواحهم بالضرب والشّدّة والعنف، كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27)} [محمد: 47/ 27].
وتقول الملائكة لهم توبيخا وتهكّما: أخرجوا أرواحكم إلينا من أجسادكم، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ} أي إنكم اليوم تهانون أشد الهوان، كما كنتم تكذّبون على اللّه، وتستكبرون عن اتّباع آياته، والانقياد لرسله، فلا تؤمنون بالآيات والرّسل، وتفترون على اللّه غير الحق. وعذاب الهون: هو عذاب الهوان الشديد.
ثم يقال لهم بعد قبض أرواحهم يوم القيامة: ولقد أتيتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء والشفعاء وانعدام النصراء، كالانفراد الأول في وقت الخلقة عند ولادتكم من بطون أمهاتكم، وتركتم وراء ظهوركم في الدنيا ما أعطيناكم من مال وولد وخدم وأثاث وقصور وغيرها من النعم والأموال التي جمعتموها، ولم تنتفعوا بها هنا، فهي لا تغني عنكم شيئا.
ليس معكم في القيامة ما زعمتم من الأصنام أنها شفعاؤكم عند اللّه وشركاء له، وفي هذا تبيان الخطأ الشديد في عبادة الأصنام وتعظيمها، لقد تقطّع بينكم، أي لقد تقطع يوم القيامة ووصلكم بينكم، وما كان من صلات وصداقات مزعومة، وغاب عنكم ما كنتم تفترونه من شفاعة الشفعاء، ونداء الأوثان والشركاء، ورجاء الأصنام، ويناديهم الرّب جلّ جلاله على رؤوس الأشهاد: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 28/ 62] ويقال لهم: {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)} [الشّعراء: 26/ 92- 93].
مظاهر القدرة الإلهية في الكون:
تتوالى الآيات القرآنية تفضّلا من اللّه ورحمة في إيراد الأدلة القاطعة الحاسمة على إثبات وجود الإله الصانع الخالق، بما يشاهده الإنسان ويجاوره ويلمسه في هذا الكون العجيب من السماء والأرض، وتتلخص تلك الأدلة في لفت الأنظار إلى صاحب الخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والتقدير والتدبير لحركة الكواكب والنجوم، وتقلّب الليل والنهار، وإنبات الأشجار من كروم النّخيل والعنب والزيتون والرمان، وحمل الثمار اليانعة والفواكه الدانية، قال اللّه تعالى:


{إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: 6/ 95- 99].
هذه الآيات الكريمات تنبيه على مواطن العبرة والنظر، وضرورة التّأمّل في آفاق الكون الزاخرة بالبراهين الحسية على وجود اللّه تعالى، فهي ترشدنا إلى حقيقة بالغة واضحة، وهي أن اللّه سبحانه لا هذه الأصنام وبقية المخلوقات، هو فالق الحبّ والنّوى أي البزر، يشقّها بقدرته في التراب، فتنفلق منها النّبتة الصغيرة ذات الجذر الضعيف والوريقة الدقيقة، ويبين بعضها عن بعض، فيخرج منها- أي (من تلك النّوى)- الزرع على اختلاف أصنافه من الحبوب، والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، ويظهر النبات الحيّ المتحرّك من الحبّ والنّوى الذي هو جماد كالميت، ويوجد الحبّ والنّوى الميت من النبات الحيّ، والنطفة والبيضة من الحيوان، والإفرازات مثل اللبن من الحيوان الحيّ، ويتحقق النمو والتكاثر بين الحي والميت، والميت والحي، وهذا في المادّيات، وكذلك في المعنويات يخرج اللّه المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ذلكم الفاعل هذا هو اللّه المتّصف بكمال القدرة، وبالغ الحكمة، المحيي والمميت، والموجد والمعدم، فكيف تصرفون أيها البشر عن إدراك الحق، وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره، وتشركون به شريكا آخر عاجزا، لا يقدر على شيء من ذلك.
وتأمّل أيها الإنسان أيضا، فإن اللّه هو فالق الإصباح الذي يشقّ فجر النّور من أوساط الظلام، فهو خالق الضياء والظلام، وهو سبحانه الموجد سكون الليل وهدوءه، المبدع نظام الشمس والقمر طريقا للحساب ومعرفة عدد الشهور والسنوات، وكلاهما يجري بحساب دقيق لا يتقدم ولا يتأخر، ذلك الإبداع الشامل حاصل بتقدير اللّه القوي القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، العليم بكل شيء، فلا يغيب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.
واللّه سبحانه هو الذي أوجد النجوم والكواكب الأخرى غير الشمس والقمر، للاهتداء بها في الأسفار وفي ظلمات الليل والماء في البر والبحر، قد بيّن اللّه لكم الآيات القرآنية والآيات الكونية لأهل العلم والنظر الذين يدركون سرّ عظمة هذه الآيات، ويستدلون بها على وجود اللّه وقدرته ووحدانيته وعلمه.
وبعد بيان آيات اللّه في الأرض والسماء، ذكر اللّه تعالى آياته في الأنفس، فهو سبحانه الذي خلقكم جميعا أيها الناس في الأصل من نفس واحدة هي آدم عليه السّلام، وهو الإنسان الأول الذي تناسل منه سائر البشر بالتّوالد والتّزاوج عن طريق الاستقرار في الأرحام والاستيداع في الأصلاب، قد أبان اللّه العلامات الدّالة على قدرته وإرادته، وعلمه وحكمته لقوم يفهمون ما يتلى عليهم.
واللّه هو الذي أنزل بقدرته وتصريفه من السحاب ماء بقدر، مباركا ورزقا للعباد، فأخرج بالمطر أصناف النبات المختلف الشكل والخواص والآثار، وأخرج به زرعا وشجرا أخضر، وجعل من النبات حبّا متراكما بعضه على بعض كالسّنابل ونحوها، وجعل من طلع النّخل عناقيد قريبة التّناول، وأخرج من الخضر بساتين من العنب والزيتون والرّمان، متشابها في الورق والشكل، قريبا بعضه من بعض، ومتخالفا في الثمار شكلا وطعما وطبعا، حلوا وحامضا، انظروا وتأمّلوا إلى الثمار إذا أثمرت وإلى نضجها كيف صارت وأينعت، إن في ذلك لعلامات لقوم يصدقون بالله ويتّبعون رسله، وذلك هو الإيمان المطلوب، وتلك براهينه الدّالة عليه.
بعض المزاعم الباطلة بنسبة الجنّ والولد والصّاحبة لله تعالى:
ليس هناك شيء أشدّ افتراء وكذبا على اللّه من نسبة الشركاء لله، من الجنّ والولد واتّخاذ الصّاحبة، فالله أسمى وأعلى وأغنى من كل ذلك، فلا حاجة له إلى الأعوان، سواء من عالم الجنّ أو من عالم الإنس، وسواء من الذكور والإناث، لأن الألوهية والرّبوبية فوق هذه الأوضاع التي يحتاج إليها البشر، ويستغني عنها الخالق القادر، العلي القاهر، ومثل هذه المزاعم والافتراءات الباطلة ما هي إلا لون من سخف المشركين، وسطحية الوثنيين، وضلال الكافرين. قال اللّه تعالى مبيّنا هذا اللون من التفكير الديني الوثني:

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12